بيت الرعب (الجزاء الثاني)

إنها تلك اللعبة الشيطانية.
* * *
أدخلني رئيس العمال إلى مكتب مدير المدينة، فاستقبلنا بترحاب وأجلسنا. وبدأ رئيس العمال في تقديمي: هذا هو العامل الجديد الذي سيتولى الإشراف على بيت الرعب. اسمه (حسام)، وأعتقد أنه أكفأ من يقوم بهذا العمل، لقد اختبرته بنفسي وقد أصلح اللعبة التي كانت معطلة منذ أربعة أيام. نظر المدير إليّ وقال: جميل جدا، أنت تعرف طبعا المسؤولية التي ستتحملها، بيت الرعب هو أكثر لعبة لها شعبية في المدينة كلها، وأكثر الألعاب استخداما. معظم الآباء لا يحبون أن يروا أطفالهم في ألعاب تدور بسرعة أو ترتفع لأعلى ثم تهبط. يعتقدون أنها خطيرة ويمنعون الأطفال من ركوبها. 


 
أما بيت الرعب فهو أكثر لعبة آمنة، وفي نفس الوقت لا تخلو من الإثارة؛ لهذا تعمل هذه اللعبة أكثر من الباقيين، ولهذا أيضا تكثر الأعطال بها، صحيح أنها أعطال بسيطة ولكنها تحتاج عاملا نبيها وسريعا حتى لا يتوقف بيت الرعب، وكلما زاد اللعب زادت الإكراميات التي تحصل عليها من الزوار، وفوق هذا قد قررت أن أعطيك ضعف مرتب العامل السابق. أنت تعرف ما حدث معه أليس كذلك؟
كدت أجيب بأني لا أعرف شيئا، ولكن رئيس العمال سبقني وهو ينظر معاتبا للمدير، وقال: لا أظن أن (حسام) ستهمه هذه الحكايات، فلندعه يبدأ عمله بسلام. قال المدير وهو يوقع على ورقة تعييني: إنها قصص حمقاء تلك التي بدأت أسمعها عن بيت الرعب مؤخرا، بعض العمال فشلوا في إصلاح اللعبة التي أصلحتها أنت؛ فجاءوا وبرروا فشلهم بأن هناك وحشاً مخيفاً كان يطاردهم داخل اللعبة! إن هذا لكلام سخيف، ولا تفسير له إلا أنهم قد أفرطوا في تناول المخدرات الرخيصة.
قال رئيس العمال وهو يضغط على كلماته: أو أنهم يثيرون الشائعات عن مدينتنا حتى تفقد زوارها، ويذهبون لتلك المدينة الجديدة التي فتحت بالقرب منا، لقد قال عامل بيت الرعب السابق نفس الكلام قبل أن يترك العمل، وهو الآن يعمل في تلك المدينة الجديدة، كان في استطاعتنا أن نوقف تعيينه في وظيفته الجديدة؛ ولكنا فضلنا تركه يبحث عن رزقه؛ لكننا لن نسمح لأي شخص آخر أن يكرر هذه الشائعات السخيفة بعد الآن.
لم يكن يهمني في ذلك الوقت إلا معرفة مرتبي وموعد استلام العمل، كانت حاجتي لهذا العمل كبيرة بعد تخرجي من كلية العلوم، وفشلي في الحصول على أي عمل، مررت على كل الأماكن التي أظن أنها قد تطلب تخصصي وتركت أوراقي، ولم يجب أي منها لا بالموافقة ولا حتى بالرفض.
بعد فترة من اليأس قال لي صديق أن هناك إعلانا في مدينة ملاه تطلب عاملا لديه خبرة في "الكهرباء"، ضحك صديقي وقال: أنا أعرف أنك فيزيائي كبير، فقلت أخبرك بهذه الوظيفة. ورغم سخرية الموقف ذهبت وقبلوني يا للعجب!
كانت المدينة في حي لا يبعد كثيرا عن الحي الذي نشأت فيه، ولكني لم أدخلها من قبل. ربما مررت من أمامها مرة وسمعت أصوات الألعاب وضحكات الزوار وصيحات الأطفال والأغاني الصاخبة، وقلت في نفسي إنهم قوم لديهم فراغ كبير في وقتهم، واحتضنت كتاب أسس الفيزياء الكمية وعدت لبيتي ومذاكرتي. ما كان يخطر ببالي أبدا أن يأتي اليوم الذي ألقي فيه كتبي في الدرج وأرتدي ملابسي ثم أذهب للعمل في مدينة الملاهي.
أنا الذي كلما جاءني صديق وزار غرفتي احتار في الصور المعلقة في كل مكان، صور بالأبيض والأسود مكبرة كأنها لنجوم الغناء أو كرة القدم. ينظر إليها الداخل دقائق محاولا معرفة أصحابها وعندما يعجز يسألني: هل هؤلاء مطربون من أمريكا؟ فأضحك وأعرفه بكل واحد منهم: هذه صورة "نيلز بور"، وهذا "هايزنبرج" وهذه "ماري كوري"، وطبعا هذا "أينشتين" في شبابه، وتحته "شرودنجر". غالبا يختلط عليهم هذا الأخير "بأرنولد شوارزنجر" الممثل؛ فانطلق في حماس موضحا الفرق بينهما دون أن يفهمني أحد.
والآن أنا نائم على سريري بعد أن استلمت عملي الجديد في بيت الرعب في الملاهي، أحاول ألا تقع عيني على عين "شرودنجر"، أعطي ظهري للحائط الذي عليه صورة "بور". تواجهني على الناحية الأخرى صورة "زويل"، هو سيفهمني أكثر من الآخرين، وربما يشرح لهم. اعذروني يا أساتذتي، هذا هو العمل الوحيد الذي وجدته. أو للدقة: هذا العمل هو الذي وجدني.
* * *
بجوار بيت الرعب يقع كشك صغير يبيع المرطبات والحلويات، تعرفت على الشاب الذي يعمل به واكتشفت أنه كان يحلم بدخول كلية العلوم ولكنه لم يحصل على المجموع المناسب ولم يدخل الجامعة أصلا، ضحكت وعرفته بنفسي وبوظيفتي العلمية، وأنني أشرف على لعبة بيت الرعب، وأن أبحاثي تدور حول إصلاح الأعطال الفنية لألعاب أطفال. ابتسم وقال بصوت منخفض: لا تسخر من وظيفتك، المسألة أصعب مما تتخيل، هناك أشياء غريبة بدأت تحدث في هذه اللعبة، وما سمعته عنها لا أستطيع أن أخبرك به حتى لا أفقد عملي، عموما أتمنى لك التوفيق. وبعد أن أثار قلقي انطلق يدندن مع الموسيقى التي تنبعث من الكشك.
مر اليوم الأول بسلام، عرفت أني يجب أن أوقف قطار اللعبة كل ساعة لمدة عشرة دقائق حتى تستريح الأجهزة، وفي تلك الدقائق لا أستريح أنا بل أمر على كل اللعب وأتأكد من أن كل شيء على ما يرام، غالبا أجد أشياء سقطت من الزوار فاحتفظ بها حتى يأتي صاحبها بعد قليل ويسألون عنها. هواتف محمولة وولاعات سجائر، وأحيانا قطع حلى لفتيات. في البداية أسأل صاحب الشيء عن صفته ثم أعيده له. لم تحدث أي أعطال، وكان العمل يسيرا، ربما كان أكثر ما أرهقني هو الأشياء التي تضيع من الناس، وأضطر إلى البحث عنها في القطار أو على الأرض، وإذا لم أجده أحاول أن أقنع الشخص أن الشيء الذي ضاع منه ربما يكون في مكان آخر أو ربما يكون سرق مثلا.
في نهاية اليوم أخبر صديقي الجديد عامل الكشك بمشكلة الأشياء الضائعة والمسروقة من الناس، فيقول: عندي لك أغنية تناسبك. أتناول مشروبا غازيا من عنده وهو يضع أسطوانة في مشغل ال "سي دي" وأسمع "أحمد منيب" يغني، أنتهي من الشرب وأمد يدي بثمن المشروب فيرد يدي دون أن يتكلم، ويبدو عليه الاهتمام الشديد عندما تصل الأغنية إلى الجملة التي يريدها، يغني معها بصوت عال مداعبا إياي: وكل شيء بينسرق مني. أضحك وأعود للبيت وقد تعودت على عملي، وألفته من أول يوم كأنني ولدت عاملا في مدينة ملاه، وكأني لم أدرس العلوم، وبدت صور العلماء في غرفتي غريبة عليّ. فكرت لحظة أن أستبدل بها صور "ميكي" و"بطوط"، ربما أفعل هذا في يوم آخر. الآن أنا مرهق بشدة ويجب أن أنام.
* * *
لا أعرف كم مر من الوقت وأنا نائم، أحلم بقطارات وألعاب وموسيقى كشك مدينة الملاهي، فجأة أصبحت الموسيقى عالية وتداخل الحلم مع الحقيقة ووجدت نفسي مستيقظا على صوت هاتفي المحمول. أرد دون أن يكتمل استيقاظي فأسمع صوت مدير العمال قادما من الحلم يقول: نريدك أن تأتي حالا لتفتح بيت الرعب. أقول شيئا في الحلم أيضا دون أن تتحرك شفتاي، يقول المدير وقد بدأ صوته يعلو: هل أنت معي؟ هل سمعت ما قلته لك؟ أهز رأسي بأني سمعت وأصدر صوتا ما من شفتي لا أفهم أنا نفسي معناه. يكرر الرجل كلامه: أحضر مفاتيح بيت الرعب وتعال فورا، خذ سيارة أجرة إن لزم الأمر، أنا هنا في انتظارك، أريدك أمامي بأسرع وقت. مع نهاية كلامه بدأت أستيقظ وأفهم. هذا الرجل يطلبني بعد منتصف الليل كي أفتح بيت الرعب، هل هناك من يريد أن يلعب الآن؟ ما هذا العبث؟ لم نتفق على هذا. أرتدي ملابسي غاضبا، وأقسم أني سأعطيه المفاتيح وأخبره أني لن أستمر في العمل بهذه الطريقة.
وصلت مدينة الملاهي في وقت قياسي، ووجدت الباب مفتوحا والحارس يبدو عليه الضيق أيضا. لاشك أنهم أيقظوه لسبب ما. أسأله ماذا حدث فيقول: "سيدة وقع منها شيء وجاءت تبحث عنه الآن. بحثنا معها في كل مكان ولم يبق غير بيت الرعب، اذهب إلى هناك وستجدهم ينتظرونك.
أدخل إلى قلب المدينة بعد منتصف الليل والظلام مع نسيم الليل يداعبان النوم في عيني، أتمنى أن يكون كل هذا حلما، ولكني أصل إلى بيت الرعب وأجد مدير العمال مع رجل وامرأة وعامل آخر. أفهم بسرعة أن السيدة سقط منها خاتم ثمين، وأنها حررت محضرا في قسم الشرطة. أحد الضباط هناك يعرفها ويعرف مدير العمال فطلب منه سرعة إنهاء الموضوع هذه الليلة. نظرت للسيدة المنهارة والتي كانت تبكي حتى نفدت منها الدموع، وتقول بصوت غير مفهوم: إن الخاتم مهم جدا لها وأن ثمنه ليس غاليا ولكنه هدية من زوجها الذي يقف بجوارها محاولا إقناعها بأنه سيحضر لها أفضل منه، وأن فقدان الخاتم أمر جيد؛ لأنها ستحصل على الخاتم الجديد، فلا ترد عليه وكأنها طفلة تريد لعبتها ولا تريد غيرها.
تعاطفت مع المرأة وأخفيت غضبي من استدعائي بهذه الطريقة، وفتحت بيت الرعب ودخلت مع العامل. بحثنا جيدا في كل مكان ولكننا لم نجد شيئا. بعد ربع ساعة خرج العامل يائسا وسمعته يحاول إقناع المرأة من جديد بأن الخاتم سرق أو ضاع في مكان آخر، وتلكأت أنا بداخل نفق القطار فلم أكن أرغب بالمشاركة في هذا الحديث. تظاهرت بالبحث عن الخاتم؛ بينما كان النوم يبحث عني وجسدي يتحرك بتثاقل وكسل. من جديد اختلط الحلم بالحقيقة عندما سمعت هاتفا يقول: الخاتم في الركن أسفل تمثال الساحرة، كالمسحور توجهت للتمثال ونظرت أسفله والتقطت الخاتم، وفجأة أحسست به في يدي حقيقة وليس حلما؛ فأصابتني رعدة والتفت حولي متسائلا عن مصدر الصوت. لم يكن هناك غيري بالداخل، وكانت أصوات المتحدثين خارج اللعبة تصل إليّ، ولكنها تبتعد حيث يبدو أن المرأة اقتنعت بعدم جدوى الانتظار أكثر من هذا، كان الخاتم في يدي وتنازعت بداخلي رغبة الخروج وإعطائه لها والفضول لمعرفة مصدر الصوت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق