نفض الأفكار الساذجة عن عقله وهو يقول لنفسه إن التنين حيوان خيالي
أصلا، ولكنه قرر أن يركب لعبة قطار بيت الرعب بنفسه حتى يشاهد هذا التنين
المزعوم. بدت الدهشة على وجه رئيس العمال الذي لم ير مديره يجرب أي لعبة
بنفسه قط. دائما هناك شخصية المدير الجاد الحازم الذي لا يهز هيبته بركوب
ألعاب الأطفال، حتى إن كانت تأتيه رغبة قوية بعض الأوقات لتجربة لعبة
مثيرة؛ إلا أنه يقاومها حفاظا على هيبة استغرق بناؤها سنوات وسنوات.
كنت أسمع الحوار وأنا أقف بجوارهم دون أن ينتبه لي أحد، وعندما قرر المدير أن يجرب اللعبة التفتوا لي كلهم وكأني ظهرت فجأة عندما أصبح لي دور يحتاجونه. قال مدير المدينة بعبارة حاسمة سأركب القطار التالي مع صديقي هذا وأشار للشاب الذي كان يسأل عن التنين ا?خضر. وددت أن أتدخل وأقول لهم إنه لا يوجد تنين أخضر أصلا بين الألعاب؛ ولكني أحسست أن هذا سيكون تصرفا سخيفا. فلأترك الرجل يكتشف بنفسه هذه الحقيقة. ركب المدير بجوار الشاب في آخر كرسي في القطار. الذي امتلأ بالركاب، ووقف بقية الرجال بجواري منتظرين خروج القطار من بيت الرعب.
في أول دخول القطار إلى النفق، أشار الفتى بحماس إلى اليمين وقال: هنا كان التنين واقفا في أول مرة، وبعد مسافة كبيرة قال بحيرة: وهنا كان يقف في المرة الثانية، لكني لا أعرف أين ذهب الآن!. اكتشف المدير أنه باع هيبته بمقابل رخيص جدا، هذا الشاب أحمق بلا شك. لم يرد عليه وقد بدأ وجهه يحمر من الغيظ، لم يخدعه أحد بهذه السهولة من قبل. منذ بدأ تكوين مشروع مدينته والجميع يتآمر عليه، ودائما ينجو من حيلهم ببراعة شديدة حتى جاء هذا الشاب الغبي وهزأ به هكذا.
أما الشاب نفسه فقد انكمش في مكانه داخل القطار وأغلق فمه في خجل شديد، لم يكن كلامه مقنعا لطفل، ولكنه كان واثقا من وجود لعبة تشبه التنين، وأن أخاه الصغير أعجب بها أيضا. التفت بعينه يمينا ويسارا منتظرا أن يخرج القطار من النفق في أي لحظة حتى تنتهي لحظات الخجل هذه وربما يبحث عن كلمات يعتذر بها للرجل بعد ذلك والأفضل أن يرحل مع أخيه دون أن يقول شيئا.
وفجأة ظهر التنين الأخضر قبل نهاية النفق بقليل، صاح الشاب منتصرا: هذا هو، لقد تغير مكانه مرة أخرى! تعالت صيحات ركاب القطار مستمتعين بالتنين الصغير الذي يخرج من فمه لهبا حقيقيا صغيرا، ولكنه كاف لإضاءة ظلام النفق، وتتراقص الشعلة الخارجة من فمه لتحرك خيالات التماثيل الأخرى في رعب لذيذ. كان الشاب يبتسم فرحا؛ أما المدير فقد فقدَ القدرة على النطق عندما رأي التنين. إنه لا يصدق أن تمثال التنين هذا يتحرك ولكن ما أثار رعبه هو شعلة النار التي يمكن أن تحدث كارثة في مكان مغلق كهذا. إن أبسط معايير السلامة تمنع وجود مثل هذه اللعبة، وهو متأكد أنه لم يوقع على ورقة لتركيب لعبة يخرج منها لهب حقيقي.
قال لنفسه: إن هذا اللهب هو خدعة متقنة بشكل ما، لا يمكن أن يكون حقيقيا أبدا. بعد ثوان تجاوز القطار لعبة التنين التي انطفأت شعلتها وأظلم المكان مرة أخرى. التفت مدير المدينة للخلف بجسده كله متأملا التنين وهو يبتعد للوراء وكذلك فعل الشاب وهو متحمس بشدة. ورغم الظلام التام استطاع الشاب أن يرى التنين وهو يقوم بأعجب فعل يمكن أن يتصوره، لقد رفع يده وحك بها أنفه! عقد المدير حاجبيه في اهتمام وهو يسمع صرخة رعب قادمة من شفتي الشاب: إنه يحك أنفه!. وفي أقل من لحظة أنزل التنين يده إلى جواره وعاد كما كان. لكن المدير كان قد لمح هذه الحركة السريعة مع إضاءة مباغتة للعبة أخرى.
قال الشاب: لقد فهمت، هذا التنين هو شخص يرتدي زي تنين إذن، ولهذا هو يتحرك من مكان لآخر، ولهذا يحك أنفه. خدعة جيدة يا سيدي. هذه فعلا أفضل مدينة ملاه زرتها في حياتي. ابتسم المدير مجاملا ونزل من القطار عندما توقف تاركا الصحفيان يتحدثان مع الشاب، وتوجه نحوي قائلا: أوقف هذه اللعبة فورا. لن يدخل أحد بيت الرعب اليوم.
* * *
توقفت اللعبة لأسبوع كامل. وتلقيت أوامر مباشرة من المدير بعمل خاص في هذا الأسبوع. طلب مني قائمة بكل الألعاب والتماثيل الموجودة داخل نفق بيت الرعب بالترتيب الذي يراه الداخل من أول النفق. ثم بعد ذلك أركب القطار وحدي ثلاث مرات كل يوم وأتأكد مرة أخرى من القطع وترتيبها!
ورغم أن هذا أسخف طلب سمعته في حياتي؛ لكنه على الأقل عمل سهل. أركب القطار وأتأكد من كل لعبة، ثم أجلس بجوار صديقي نتحدث عدة ساعات، ثم أركب مرة أخرى وهكذا. بدأت أتحسر على الساعات التي قضيتها في مكتبة الكلية أقرأ عن علاقة الرياضيات بالفيزياء وأسجل المعادلات المثيرة في كراساتي. كل هذا لا قيمة له الآن، المهم هو تسجيل تلك الألعاب وترتيبها وإرسال تقرير علمي لمدير المدينة. ربما ينشره المدير في مجلة عالمية للأبحاث فيما بعد، لا شك أنه بحث مهم فقد أثبت فيه أن ألعاب بيت الرعب عددها كذا وأنها لا تزيد ولا تنقص ولا تتحرك من تلقاء نفسها.
بعد أن اطمأن المدير لنتيجة البحث الذي أجريته، قال لي: اليوم تجرب قطار بيت الرعب للمرة الأخيرة وغداً نفتحه مرة أخرى للزوار. يكفينا كل هذه الخسائر. الغريب أنه نسي موضوع التنين تماما رغم أني قدمت له قائمة بالألعاب الموجودة ولم يكن فيها أي تنين.
ركبت القطار وقام عامل الكشك بتشغيله وبدأ التحرك. أسجل القطع التي أراها كالمعتاد: البومة الكبيرة، الرأس ذو الثلاثة عيون، الكاو بوي الأعمى الذي يحمل مسدسين ويطلق بعشوائية، ثلاثة خفافيش رمادية..
لحظة واحدة، لم تكن هناك أية خفافيش في اللعبة طوال الأيام السابقة! هذه الخفافيش حقيقية إذن وقد دخلت إلى اللعبة ظنا منها أنها كهف مهجور. أنهيت جولتي بالقطار، ثم دخلت على قدمي مرة أخرى لكي أطرد هذه الخفافيش. كنت أحمل مصباحي الكهربائي وأبحث عنها، لابد أنها طارت لمكان آخر. وصلت إلى منتصف القطار عندما رأيتهم معلقين بإحدى الألعاب. بدأت أفكر في طريقة لطردهم خارج القطار؛ ولكني سمعت صوت خطوات من خلفي. استدرت فجأة فوجدت دبا صغيرا يقترب مني بهدوء، من الجهة الأخرى كان تنين أخضر يتحرك نحوي أيضا ثم جاء تمساح يزحف وفئران وعنكبوت وكائنات أخرى غريبة لا أعرف لها اسما.
أصبحت محاصرا تماما في هذا المكان المظلم ومصباحي الكهربائي لا يكفي لإضاءة كل الاتجاهات كي أرى عشرات العيون التي تنظر إليّ. وقفت مذهولا لا أعرف ماذا ينبغي أن أفعل. لن يسمع أحد صراخي وأنا في وسط النفق، ولن أستطيع اختراق هذه الأجساد كلها وأجري في أي ناحية. أنا تحت سيطرتهم تماما فليأكلوني لو أرادوا؛ لكن ليفعلوا هذا بسرعة قبل أن تنهار أعصابي.
-3-
بدأ التنين الصغير بالكلام. هل يمكن أن يتكلم تنين؟ وهل يوجد أصلا تنين في الحقيقة؟ وما هذا المكان المرعب الذي أنا فيه؟ لم أفهم ما قاله لأني لم أسمعه جيدا، وجدت نفسي أقول أشياء مثل "أريد أن أخرج من هنا، دعوني أذهب، لا تؤذوني.." وهو يرد عليّ وأنا لا أفهم. كل ما أريده هو أن يفسحوا لي الطريق كي أخرج من هنا.
أشار الدب إلى التنين لكي يسكت واقترب هو مني وبدأ يتكلم. هذا أفضل قليلا، أن تتكلم مع دب هو أمر أيسر قليلا من الحديث مع كائن خرافي. قال الدب: لا تخف. تمنيت أن أفعل كما يقول، ولكن كان ذلك مستحيلا في هذه الظروف.
أحضروا لي كرسيا لا أعرف من أين، ووجدت نفسي أسقط عليه دون أن أشعر. جلسوا حولي كلهم في حلقة كبيرة؛ بينما طارت الخفافيش من موقعها السابق لتحط في مكان آخر أمامي. الدب هو الوحيد الذي ظل واقفا. نظرت إليه مستفهما عما يدور هنا فقال: طبعا أنت مندهش لما تراه، ولكننا نعرف أنك ستتغلب على دهشتك وخوفك، سأشرح لك كل شيء، نحن مجموعة من الكائنات التي لا يعرفها البشر، وكل ما لا تعرفونه فهو بالنسبة لكم عفريت أو جني أو نحو ذلك، لنقل إننا من العفاريت المسالمة التي تتصور في أشكال مختلفة، كنا نعيش في هذا المكان قبل إنشاء مدينة الملاهي ثم رحلنا في أصقاع الأرض، بعد مئات السنين من الدوران هنا وهناك اكتشفنا أن راحتنا لن تكون إلا في هذا المكان، فعدنا مرة أخرى لكي نموت هنا، فقد كبرنا كلنا واقترب أجلنا، عدنا فوجدنا الحي قد امتلأ بالبشر ولم يعد لنا مكان نعيش فيه، قضينا سنة كاملة ندرس المنطقة حتى اهتدينا إلى أن أنسب مكان لنا هو هذا النفق الذي تسمونه بيت الرعب، قررنا أن نقيم فيه ما تبقى لنا من العمر؛ فهنا يمكن أن نختفي وسط الألعاب، ولن يشك فينا أحد، وأيضا سنساعد في تسلية زوار النفق ببعض الخدع والألعاب، كان كل شيء على ما يرام حتى جاء هو.
كان يريدني أن أسأله بالطبع "من هو"؛ ولكني لم أستطع أن أفتح فمي من الرهبة؛ فتكفل التنين بالإجابة عن السؤال المفترض: هناك في كل مكان الجيد والسيء، وفي جنسنا كان هو أسوأ المخلوقات على الإطلاق. قال الدب مؤَمّنا على كلامه: نعم هو كالمجرمين في عالمكم، كأشد المجرمين شرا وأكثرهم خبثا.. إنه الكرونوثيف. أو بِلُغَتكم سارق الوقت، الكرونوثيف هو مخلوق مثلنا لكنه يحيا عمرا أطول إذا سرق عمر الآخرين، وله في ذلك حِيَل كثيرة كلها محرمة علينا، ولا نقترب منها؛ بينما هو لا يتورع عن التهام الأعمار طوال الوقت وخاصة أعمار البشر.
سألت بفضول بعد أن هدأ خوفي منهم قليلا: وكيف يسرق أعمار البشر؟ يقتلهم وهم صغار مثلا؟
قال التنين شارحاً: لا، هو لا يقتل، ليس لأنه لا يقدر على ذلك؛ ولكن لأن الموت هو ضياع الوقت، هو يسرق الأوقات من الأحياء، يتغذى على كل ثانية يمصها من أي إنسان، إذا نظرت في ساعتك ورأيتها تشير للخامسة وبعد قليل نظرت إليها فوجدتها في السادسة وقلت لنفسك إن الوقت يمر بسرعة، أو إذا اختلط عليك الأمر ولم تعرف هل اليوم هو الثلاثاء أم الأربعاء ووجدت أنه الأربعاء، فاعلم أن الكرونوثيف قد سرق منك ساعة أو يوما!.
قال الدب: كل الأوقات الضائعة تذهب إلى كرونوثيف، لا يوجد شيء يضيع في الحقيقة، ما يضيع يمكن أن تجده مرة أخرى إذا بحثت عنه، المشكلة في الأوقات المسروقة التي التهمها كرونوثيف، هذه لن تعود. ولا يوجد مكان أفضل من مدينة ملاه كي يقيم فيها الكرونوثيف، هنا تسهل سرقة أوقات الآخرين الذين جاءوا بأقدامهم ليستمعوا بوقتهم، معظمهم لا يلاحظ أن وقته يسرق منه، ولا يميز بين أن يستمتع هو بالوقت وبين أن يستمتع به الكرونوثيف الذي يحب أوقات الشباب وصغار السن بشكل خاص.
قال التنين: وقد جاء هذا الكرونوثيف إلى بيت الرعب واتخذه مقرا له، في البداية لم نتكلم معه، وتظاهرنا بأنه غير موجود، طوال اليوم هو يدور في مدينة الملاهي يتغذى على الأوقات المسروقة ثم يعود في المساء لبيت الرعب؛ لكنه لم يكن ينام مثلنا، كان يتسلى بإزعاجنا ومضايقتنا، وفي الأيام الأخيرة أخبرنا أنه أعجب بهذا المكان وبخيراته الكثيرة من الأوقات التي لا تجد من يلتهمها، وطلب منا أن نعمل معه في سرقة الأوقات لحسابه أو يطردنا من هنا!.
قال الدب وهو يجلس مهموما: لا داعي لهذا الكلام، نحن لن نسرق كما يريد الكرونوثيف، وهذا الإنسان لن يستطيع أن يساعدنا بشيء، لم يكن ينبغي أن نتحدث إليه يا تنين، هو عاجز مثلنا؛ بل ربما أكثر منا، دعوه يذهب.
كنت أسمع الحوار وأنا أقف بجوارهم دون أن ينتبه لي أحد، وعندما قرر المدير أن يجرب اللعبة التفتوا لي كلهم وكأني ظهرت فجأة عندما أصبح لي دور يحتاجونه. قال مدير المدينة بعبارة حاسمة سأركب القطار التالي مع صديقي هذا وأشار للشاب الذي كان يسأل عن التنين ا?خضر. وددت أن أتدخل وأقول لهم إنه لا يوجد تنين أخضر أصلا بين الألعاب؛ ولكني أحسست أن هذا سيكون تصرفا سخيفا. فلأترك الرجل يكتشف بنفسه هذه الحقيقة. ركب المدير بجوار الشاب في آخر كرسي في القطار. الذي امتلأ بالركاب، ووقف بقية الرجال بجواري منتظرين خروج القطار من بيت الرعب.
في أول دخول القطار إلى النفق، أشار الفتى بحماس إلى اليمين وقال: هنا كان التنين واقفا في أول مرة، وبعد مسافة كبيرة قال بحيرة: وهنا كان يقف في المرة الثانية، لكني لا أعرف أين ذهب الآن!. اكتشف المدير أنه باع هيبته بمقابل رخيص جدا، هذا الشاب أحمق بلا شك. لم يرد عليه وقد بدأ وجهه يحمر من الغيظ، لم يخدعه أحد بهذه السهولة من قبل. منذ بدأ تكوين مشروع مدينته والجميع يتآمر عليه، ودائما ينجو من حيلهم ببراعة شديدة حتى جاء هذا الشاب الغبي وهزأ به هكذا.
أما الشاب نفسه فقد انكمش في مكانه داخل القطار وأغلق فمه في خجل شديد، لم يكن كلامه مقنعا لطفل، ولكنه كان واثقا من وجود لعبة تشبه التنين، وأن أخاه الصغير أعجب بها أيضا. التفت بعينه يمينا ويسارا منتظرا أن يخرج القطار من النفق في أي لحظة حتى تنتهي لحظات الخجل هذه وربما يبحث عن كلمات يعتذر بها للرجل بعد ذلك والأفضل أن يرحل مع أخيه دون أن يقول شيئا.
وفجأة ظهر التنين الأخضر قبل نهاية النفق بقليل، صاح الشاب منتصرا: هذا هو، لقد تغير مكانه مرة أخرى! تعالت صيحات ركاب القطار مستمتعين بالتنين الصغير الذي يخرج من فمه لهبا حقيقيا صغيرا، ولكنه كاف لإضاءة ظلام النفق، وتتراقص الشعلة الخارجة من فمه لتحرك خيالات التماثيل الأخرى في رعب لذيذ. كان الشاب يبتسم فرحا؛ أما المدير فقد فقدَ القدرة على النطق عندما رأي التنين. إنه لا يصدق أن تمثال التنين هذا يتحرك ولكن ما أثار رعبه هو شعلة النار التي يمكن أن تحدث كارثة في مكان مغلق كهذا. إن أبسط معايير السلامة تمنع وجود مثل هذه اللعبة، وهو متأكد أنه لم يوقع على ورقة لتركيب لعبة يخرج منها لهب حقيقي.
قال لنفسه: إن هذا اللهب هو خدعة متقنة بشكل ما، لا يمكن أن يكون حقيقيا أبدا. بعد ثوان تجاوز القطار لعبة التنين التي انطفأت شعلتها وأظلم المكان مرة أخرى. التفت مدير المدينة للخلف بجسده كله متأملا التنين وهو يبتعد للوراء وكذلك فعل الشاب وهو متحمس بشدة. ورغم الظلام التام استطاع الشاب أن يرى التنين وهو يقوم بأعجب فعل يمكن أن يتصوره، لقد رفع يده وحك بها أنفه! عقد المدير حاجبيه في اهتمام وهو يسمع صرخة رعب قادمة من شفتي الشاب: إنه يحك أنفه!. وفي أقل من لحظة أنزل التنين يده إلى جواره وعاد كما كان. لكن المدير كان قد لمح هذه الحركة السريعة مع إضاءة مباغتة للعبة أخرى.
قال الشاب: لقد فهمت، هذا التنين هو شخص يرتدي زي تنين إذن، ولهذا هو يتحرك من مكان لآخر، ولهذا يحك أنفه. خدعة جيدة يا سيدي. هذه فعلا أفضل مدينة ملاه زرتها في حياتي. ابتسم المدير مجاملا ونزل من القطار عندما توقف تاركا الصحفيان يتحدثان مع الشاب، وتوجه نحوي قائلا: أوقف هذه اللعبة فورا. لن يدخل أحد بيت الرعب اليوم.
* * *
توقفت اللعبة لأسبوع كامل. وتلقيت أوامر مباشرة من المدير بعمل خاص في هذا الأسبوع. طلب مني قائمة بكل الألعاب والتماثيل الموجودة داخل نفق بيت الرعب بالترتيب الذي يراه الداخل من أول النفق. ثم بعد ذلك أركب القطار وحدي ثلاث مرات كل يوم وأتأكد مرة أخرى من القطع وترتيبها!
ورغم أن هذا أسخف طلب سمعته في حياتي؛ لكنه على الأقل عمل سهل. أركب القطار وأتأكد من كل لعبة، ثم أجلس بجوار صديقي نتحدث عدة ساعات، ثم أركب مرة أخرى وهكذا. بدأت أتحسر على الساعات التي قضيتها في مكتبة الكلية أقرأ عن علاقة الرياضيات بالفيزياء وأسجل المعادلات المثيرة في كراساتي. كل هذا لا قيمة له الآن، المهم هو تسجيل تلك الألعاب وترتيبها وإرسال تقرير علمي لمدير المدينة. ربما ينشره المدير في مجلة عالمية للأبحاث فيما بعد، لا شك أنه بحث مهم فقد أثبت فيه أن ألعاب بيت الرعب عددها كذا وأنها لا تزيد ولا تنقص ولا تتحرك من تلقاء نفسها.
بعد أن اطمأن المدير لنتيجة البحث الذي أجريته، قال لي: اليوم تجرب قطار بيت الرعب للمرة الأخيرة وغداً نفتحه مرة أخرى للزوار. يكفينا كل هذه الخسائر. الغريب أنه نسي موضوع التنين تماما رغم أني قدمت له قائمة بالألعاب الموجودة ولم يكن فيها أي تنين.
ركبت القطار وقام عامل الكشك بتشغيله وبدأ التحرك. أسجل القطع التي أراها كالمعتاد: البومة الكبيرة، الرأس ذو الثلاثة عيون، الكاو بوي الأعمى الذي يحمل مسدسين ويطلق بعشوائية، ثلاثة خفافيش رمادية..
لحظة واحدة، لم تكن هناك أية خفافيش في اللعبة طوال الأيام السابقة! هذه الخفافيش حقيقية إذن وقد دخلت إلى اللعبة ظنا منها أنها كهف مهجور. أنهيت جولتي بالقطار، ثم دخلت على قدمي مرة أخرى لكي أطرد هذه الخفافيش. كنت أحمل مصباحي الكهربائي وأبحث عنها، لابد أنها طارت لمكان آخر. وصلت إلى منتصف القطار عندما رأيتهم معلقين بإحدى الألعاب. بدأت أفكر في طريقة لطردهم خارج القطار؛ ولكني سمعت صوت خطوات من خلفي. استدرت فجأة فوجدت دبا صغيرا يقترب مني بهدوء، من الجهة الأخرى كان تنين أخضر يتحرك نحوي أيضا ثم جاء تمساح يزحف وفئران وعنكبوت وكائنات أخرى غريبة لا أعرف لها اسما.
أصبحت محاصرا تماما في هذا المكان المظلم ومصباحي الكهربائي لا يكفي لإضاءة كل الاتجاهات كي أرى عشرات العيون التي تنظر إليّ. وقفت مذهولا لا أعرف ماذا ينبغي أن أفعل. لن يسمع أحد صراخي وأنا في وسط النفق، ولن أستطيع اختراق هذه الأجساد كلها وأجري في أي ناحية. أنا تحت سيطرتهم تماما فليأكلوني لو أرادوا؛ لكن ليفعلوا هذا بسرعة قبل أن تنهار أعصابي.
-3-
بدأ التنين الصغير بالكلام. هل يمكن أن يتكلم تنين؟ وهل يوجد أصلا تنين في الحقيقة؟ وما هذا المكان المرعب الذي أنا فيه؟ لم أفهم ما قاله لأني لم أسمعه جيدا، وجدت نفسي أقول أشياء مثل "أريد أن أخرج من هنا، دعوني أذهب، لا تؤذوني.." وهو يرد عليّ وأنا لا أفهم. كل ما أريده هو أن يفسحوا لي الطريق كي أخرج من هنا.
أشار الدب إلى التنين لكي يسكت واقترب هو مني وبدأ يتكلم. هذا أفضل قليلا، أن تتكلم مع دب هو أمر أيسر قليلا من الحديث مع كائن خرافي. قال الدب: لا تخف. تمنيت أن أفعل كما يقول، ولكن كان ذلك مستحيلا في هذه الظروف.
أحضروا لي كرسيا لا أعرف من أين، ووجدت نفسي أسقط عليه دون أن أشعر. جلسوا حولي كلهم في حلقة كبيرة؛ بينما طارت الخفافيش من موقعها السابق لتحط في مكان آخر أمامي. الدب هو الوحيد الذي ظل واقفا. نظرت إليه مستفهما عما يدور هنا فقال: طبعا أنت مندهش لما تراه، ولكننا نعرف أنك ستتغلب على دهشتك وخوفك، سأشرح لك كل شيء، نحن مجموعة من الكائنات التي لا يعرفها البشر، وكل ما لا تعرفونه فهو بالنسبة لكم عفريت أو جني أو نحو ذلك، لنقل إننا من العفاريت المسالمة التي تتصور في أشكال مختلفة، كنا نعيش في هذا المكان قبل إنشاء مدينة الملاهي ثم رحلنا في أصقاع الأرض، بعد مئات السنين من الدوران هنا وهناك اكتشفنا أن راحتنا لن تكون إلا في هذا المكان، فعدنا مرة أخرى لكي نموت هنا، فقد كبرنا كلنا واقترب أجلنا، عدنا فوجدنا الحي قد امتلأ بالبشر ولم يعد لنا مكان نعيش فيه، قضينا سنة كاملة ندرس المنطقة حتى اهتدينا إلى أن أنسب مكان لنا هو هذا النفق الذي تسمونه بيت الرعب، قررنا أن نقيم فيه ما تبقى لنا من العمر؛ فهنا يمكن أن نختفي وسط الألعاب، ولن يشك فينا أحد، وأيضا سنساعد في تسلية زوار النفق ببعض الخدع والألعاب، كان كل شيء على ما يرام حتى جاء هو.
كان يريدني أن أسأله بالطبع "من هو"؛ ولكني لم أستطع أن أفتح فمي من الرهبة؛ فتكفل التنين بالإجابة عن السؤال المفترض: هناك في كل مكان الجيد والسيء، وفي جنسنا كان هو أسوأ المخلوقات على الإطلاق. قال الدب مؤَمّنا على كلامه: نعم هو كالمجرمين في عالمكم، كأشد المجرمين شرا وأكثرهم خبثا.. إنه الكرونوثيف. أو بِلُغَتكم سارق الوقت، الكرونوثيف هو مخلوق مثلنا لكنه يحيا عمرا أطول إذا سرق عمر الآخرين، وله في ذلك حِيَل كثيرة كلها محرمة علينا، ولا نقترب منها؛ بينما هو لا يتورع عن التهام الأعمار طوال الوقت وخاصة أعمار البشر.
سألت بفضول بعد أن هدأ خوفي منهم قليلا: وكيف يسرق أعمار البشر؟ يقتلهم وهم صغار مثلا؟
قال التنين شارحاً: لا، هو لا يقتل، ليس لأنه لا يقدر على ذلك؛ ولكن لأن الموت هو ضياع الوقت، هو يسرق الأوقات من الأحياء، يتغذى على كل ثانية يمصها من أي إنسان، إذا نظرت في ساعتك ورأيتها تشير للخامسة وبعد قليل نظرت إليها فوجدتها في السادسة وقلت لنفسك إن الوقت يمر بسرعة، أو إذا اختلط عليك الأمر ولم تعرف هل اليوم هو الثلاثاء أم الأربعاء ووجدت أنه الأربعاء، فاعلم أن الكرونوثيف قد سرق منك ساعة أو يوما!.
قال الدب: كل الأوقات الضائعة تذهب إلى كرونوثيف، لا يوجد شيء يضيع في الحقيقة، ما يضيع يمكن أن تجده مرة أخرى إذا بحثت عنه، المشكلة في الأوقات المسروقة التي التهمها كرونوثيف، هذه لن تعود. ولا يوجد مكان أفضل من مدينة ملاه كي يقيم فيها الكرونوثيف، هنا تسهل سرقة أوقات الآخرين الذين جاءوا بأقدامهم ليستمعوا بوقتهم، معظمهم لا يلاحظ أن وقته يسرق منه، ولا يميز بين أن يستمتع هو بالوقت وبين أن يستمتع به الكرونوثيف الذي يحب أوقات الشباب وصغار السن بشكل خاص.
قال التنين: وقد جاء هذا الكرونوثيف إلى بيت الرعب واتخذه مقرا له، في البداية لم نتكلم معه، وتظاهرنا بأنه غير موجود، طوال اليوم هو يدور في مدينة الملاهي يتغذى على الأوقات المسروقة ثم يعود في المساء لبيت الرعب؛ لكنه لم يكن ينام مثلنا، كان يتسلى بإزعاجنا ومضايقتنا، وفي الأيام الأخيرة أخبرنا أنه أعجب بهذا المكان وبخيراته الكثيرة من الأوقات التي لا تجد من يلتهمها، وطلب منا أن نعمل معه في سرقة الأوقات لحسابه أو يطردنا من هنا!.
قال الدب وهو يجلس مهموما: لا داعي لهذا الكلام، نحن لن نسرق كما يريد الكرونوثيف، وهذا الإنسان لن يستطيع أن يساعدنا بشيء، لم يكن ينبغي أن نتحدث إليه يا تنين، هو عاجز مثلنا؛ بل ربما أكثر منا، دعوه يذهب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق